الخميس، 12 ديسمبر 2013

اشراقة ماضي - ابن الكحال



{ ابن الكحال }



طب العيون انفصل عن الطب منذ عهد القدماء المصريين، ويُعتبر طبيب العيون من الأطباء المحترمين في المجتمع العربي والإسلامي، وكان العرب يُسَمُّون هذه المهنة (صناعة الكحل) .

هو طبيب نابغ فريد من أشهر أطباء العيون ، ظلَّ كتابه في طب العيون المرجع الذي لا يرقى إليه كتاب آخر حتى بعد أن توفي بأكثر من سبعة قرون، وهذا ليس كلامنا بل هو شهادة المستشرق الألماني المعروف هيرشبرغ.


نسبه وتعليمه:
إنه ابن الكحال وهو علي بن عيسى البغدادي الكحال (ت430 هـ/ 1039م)، ويُلَقَّب بشرف الدين، وهو من أطباء القرن الرابع الهجري، كان يُعرف في الغرب الأوربي باسم (جيزوهالي Jesyhaly) .

اهتم بدراسة طب العيون منذ نعومة أظافره، فنبغ فيه وصار من رموز هذا المجال، حتى أصبح متخصِّصًا في الردِّ على ما كتبه اليونانيون ومن عاصروه من أطباء العرب والمسلمين، وكانت آراؤه يُقْتَدَى بها في علاج أمراض العيون .

وعنه يقول الصفدي: "كان مشهورًا بالحذق في صناعة الكحل، وبكلامه يُقْتَدَى في أمراض العين ومداواتها" .

ويشهد ويل ديورانت -صاحب موسوعة قصة الحضارة- أن "علي بن عيسى أعظم أطباء العيون المسلمين، وقد ظلَّ كتابه تذكرة الكحالين يدرس في أوربا حتى القرن الثامن عشر" .


مؤلفات ابن الكحال:
كان متميزا في صناعة العيون في عصره وله عددًا من المؤلفات في طب العيون تُعتبر حتى الآن مصدرًا يرجع إليه الكثيرون، وأشهر مؤلفاته على الإطلاق كتاب (تذكرة الكحالين) .

والذي يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام : القسم الأول في تشريح العين، القسم الثاني في أمراض العين الظاهرة أي الواقعة تحت الحس، القسم الثالث في أمراض العين الباطنة التي لا تقع تحت الحس، وقد اكتسب هذا الكتاب شهرةً واسعةً في الغرب وقد ترجم إلى اللاتينية والعبرية كما وأن الطبيب الألماني هرش برج قال في مقدمة ترجمته لكتاب تذكرة الكحالين بأن علي بن عيسى أول كحال اقترح التنويم والتخدير بالعقاقير في العمل الجراحي ولم يكن معروفا عند اليونانيين

يقول جمال الدين القفطي في كتابه (تاريخ الحكماء): "إن كتاب تذكرة الكحالين لعلي بن عيسى البغدادي الكحال كان من المصادر الهامة في طب العيون. ويعتبر كتاب (تذكرة الكحالين) أحسن وأكمل كتاب أُلِّف في طب العيون حتى القرن الثالث عشر الهجري، والحقيقة الواضحة أنه وثيقة تاريخية بجميع ما قَدَّمه الأوائل في هذا الميدان.

وترجع أهمية هذا الكتاب إلى النظرية التي فسر بها عملية الإبصار "أن الروح الباصر يخرج من العين ليقيس المنظورات، ثم يعود إلى العين ويدخلها ليطبع صورها على الدماغ". وهو ما صَحَّحه فيما بَعْدُ عملاق طب العيون العربي الحسن بن الهيثم؛ فأثبت حقيقة فسلجت الرؤية بقوله: "إنها بوقوع صور المرئيات على الجهاز البصري في العين، أي ليس هناك روح باصر يشارك في عملية الإبصار كما كان يعتقد علي بن عيسى الكحال".

ونظرًا لأهمية الكتاب فقد ظلَّ يعتمد عليه طلاب طب العيون؛ لِمَا يحتوي عليه من معارف رائعة، ويقول المؤلِّف في مقدمته: "بيّنت فيه جميع ما يحتاج إليه في علاج أمراض العين؛ وذلك أنه قد تدعو الضرورة في بعض الأوقات إلى النظر في الكتب في علاج مرض من الأمراض ليستغني به عن النظر في الكتب الكبار، ويصلح أيضًا للأسفار، ويُغني عن حمل الكتب الكثيرة، وقد ذكرتُ فيه جميع الطرق الطبية المحتاج إليها في علاج أمراض العين، مع ذكر الدلائل والأسباب والمداواة لجميع أمراضها المتشابهة الأجزاء منها والآلية، وما يكون فيها من تفوُّق الاتصال" .

شهادات لكتاب ابن الكحال:
يقول ابن أبي أصيبعة في الكتاب: "هو الذي لا بُدَّ لكل مَن يعاني صناعة الكحل أن يحفظه، وقد اقتصر الناس عليه دون غيره من سائر الكتب التي قد أُلفت في هذا الفنِّ وصار ذلك مستمرًّا عندهم" .

ويقول جورج سارتون الملقب بـ (مؤرخ العلم): "إنه أقدم مؤلف في العين في اللغة العربية، نجد منه نسخًا كاملة إذا استثنينا (العشر مقالات في العين) لحنين بن إسحاق" .‏

كما يشهد (هيرشبرغ) للكتاب بأنه "من أصحِّ وأدقِّ الكتب التي وصلتنا في هذا الفنِّ... وقد وصل إلينا على ما كان عليه في اللسان العربي... إننا لا نجد في أوربا قبل بداية القرن الثامن عشر الميلادي كتابًا يرقى إلى مستوى هذا الكتاب" .‏

ولا شكَّ أن أهمية الكتاب أدَّت إلى ترجمته إلى عدد من اللغات؛ كان أقدمها ترجمته إلى اللغة اللاتينية في مطالع القرون الوسطى، كما تُرجم إلى الفارسية بقلم شمس الدين بن علي الجرجان، كما تُرجم الكتاب إلى التركية، وفي عام 1904م ترجمه إلى الألمانية المستشرقان (هيرشبرغ وليبرت) ونشراه مع مقدمة رائعة ودراسة مستفيضة لما جاء فيه من معطيات وإبداعات جديدة مقارنة مع معطيات أطباء اليونان التي تجاوزها علي بن عيسى في التذكرة.‏

ثم ترجمه (كيسي وود c Wood) إلى الإنجليزية ، كما ترجم مايرهوف بعض فصوله وألحقها بكتابه عن (التراكوما).

إنجازات ابن الكحال العلمية:
لقد كانت أهمُّ إنجازات الكحال أنه أنشأ منهجًا جديدًا في البحث العلمي وفي تأليف كتبه وبخاصة (تذكرة الكحالين)، الذي وضع له قواعد علمية دقيقة منطقية تميَّزت عن قواعد التأليف التقليدية التي كان يتبعها من سبقه من الأطباء كحنين بن إسحاق (ت 260هـ/873م) وبخاصة في كتابيه (المقالات العشر في العين) و(المسائل في العين).‏

أيضًا ظهرت إبداعات الكحال في وصف (التهاب الشريان الصدغي والقحفي) والعلاقة بين هذين الالتهابين واضطراب الرؤية في مرض الشقيقة، فلقد سبق الكحال (جونثان هجتنسن 1980م) بما يزيد على ثمانية قرون، كما ذكر (د.هاملتون وزملاؤه)، ولاحظ في (تذكرته) وبيَّن العلاقة بين الشرايين الملتهبة وأعراض الرؤية، وذلك أثناء بحثه عن سِلِّ الشرايين وكيّها.

وما يُؤَكِّد قول (د.هاملتون وزملائه) ما جاء في (الباب الخامس والعشرين من المقالة الثانية من التذكرة) تحت عنوان (في سلِّ شرايين الصدغين وكيها)؛ إذ قال علي بن عيسى: "قد تعالج أوجاع الشقيقة والصداع، والذين تعرض لهم نزلات مزمنة في الأعين، أو نزلات الأصداغ، حتى ربما خيف على البصر من التلف".

ثم تابع يقول في وصف عملية سلِّ الشريان: "فينبغي حينئذ أن تأمره بحلق الرأس، وتفتِّشُ عن الشريانات بالأصابع بعد تسخين الموضع بالدلك وبالكماد بالماء الحارِّ، ويكون ذلك بعد شدِّ الرقبة والخنق الرقيق، حتى إذا ظهر الشريان علَّمت عليه بالمداد، ثم تجذب الجلد إليك بالأصبعين من اليد اليسرى، ثم تشقَّه بالمقراض شقًّا معتدلاً، ويكون الشقُّ في الجلد وحده، ثم تمدّ العرق إليك بصنارة حتى يخلص من جميع جهاته وتكويه، فإن كان الشريان دقيقًا فأدخل تحته مبضعًا وابتره" .‏

وبهذه الدقَّة والرُّوح العلمية صار عيسى الكحال رمزًا لهذا العِلْم، كما كانت مؤلفاته مصدرًا لا يستغني عنه الباحثون في هذا المجال.

الكاتبة:
بشرى الحربي

المصدر: 
كتاب (قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية)
 للدكتور راغب السرجاني.













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق