السبت، 7 يونيو 2014

اشراقة ماضي - علي بن العباس.



علي بن العباس


كما عرفنا الحضارة الإسلامية عظيمة وثرية بالعلم والعلوم والأعلام، ورائعة بما فيها من قيم أصيلة وإنسانيات خالدة، فإنها اليوم تُبرز لنا واحدًا من علمائها الأعلام الذين ذاع صيتهم في المجال الطبي شرقًا وغربًا، وهو علي بن العباس المجوسي الذي يُعدُّ رائدًا حقيقيًّا في النواحي التطبيقية والتنظيرية والأخلاقية في المجال الطبي.

فقد اشتهر علي بن العباس المجوسي باعتباره طبيبًا بارعًا في علاج الأمراض المتوطنة والمستعصية على العلاج لفترات طويلة، ولم يكن عليٌّ من أولئك الأطباء المفتقرين للنواحي العلمية النظرية أو التطبيقية، بل إن الذي جعله متفرِّدًا بين علماء عصره وحتى يومنا هذا هو إلمامه بكافَّة النواحي النظرية التي يحتاجها أي طبيب مثله من المعرفة والعلم والدراية بما كتبه الأولون في هذا الفنِّ؛ وبجانب ذلك سيره على ما يُسَمَّى في الواقع العلمي اليوم باسم (المنهج العلمي) القائم على التجربة والاستقصاء والملاحظات ومن ثَمَّ النتائج.


علي بن العباس.. وكامل الصناعة الطبية 

اشتهر علي بن العباس بكتابه المسمى (كامل الصناعة الطبية الضرورية) والمشهور باسم (الملكي)، فإنه يُعدُّ من أبرز مصنفاته وأشهرها على الإطلاق..

ويتكوَّن كتاب (كامل الصناعة الطبية) من جزأين متكاملين؛ كل منهما يحتوي على عشر مقالات؛ فالمقالة الأولى من الجزء الأول تتناول الأمور العامة وأمزجة الأعضاء، والثانية والثالثة تختصَّان في تشريح وظائف الأعضاء، والرابعة تهتمُّ في ذكر القوى والأفعال والأرواح، والخامسة تشمل الأمور التي ليست طبيعية، والسادسة في الأمراض والأعراض، والسابعة في الدلائل العامة على الأمراض والعلل، والثامنة في الاستدلال على الأمراض الظاهرة للحسِّ وأسبابها وعلاماتها، والتاسعة تحوي ذكر الدلائل وأسبابها وعلاماتها. وأما الجزء الثاني فيشتمل على كلٍّ من: المقالة الأولى في الصحة العامة، والثانية في الأدوية، والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة: خصَّصها لعلاج الأمراض ومداواتها، والتاسعة للجراحة، وأما العاشرة فهي لصنع المعجَّنات والدهونات والأشربة والأكحال وغيرها

وقد وصفت زيجريد هونكه كتاب علي بن العباس بقولها: "كل ما تمناه الرازي وحال المرض والعمى ثم الموت دون إبرازه إلى حيز الوجود حَقَّقَه علي بن العباس في أكمل صورة، وجاء كتابه تحفة علمية رائعة، جمعت بين (عمق كتاب الحاوي) وتماسك كتاب (المنصوري)...

(وكان كتابًا ملكيًّا بالفعل كعنوانه الكتاب الملكي)، وما يزال يستحق إعجابنا وتقديرنا حتى العصر الذي نعيش فيه"

علي بن العباس.. ومنهج نقدي متميز 

مما يُدلِّل على مقدرة علي بن العباس العقلية الفاحصة لكل ما قرأه واطَّلع عليه، ومما يُدلل أيضًا على تبحُّره ومكانته الفائقة في المجال الطبي، وكذلك على منهجه الذي اعتمد عليه إزاء الدراسات السابقة عليه، أنه قد انتقد كثيرًا من المؤلفين السابقين عليه، وخاصة ما ألَّفه اليونانيون في هذا المجال، ولم يكن هذا الانتقاد منطلِقًا من التشفِّي لكل ما كتبه القدماء، بل كان انتقادًا بالأدلة العلمية الصحيحة والعقلية المقبولة في كتابه القيِّم (الملكي(.



علي بن العباس.. إنجازات وإسهامات 

في صدد إنجازات وإسهامات علي بن العباس ومكانته العلمية الفريدة، كانت تعليقات زيجريد هونكه، والتي ذكرت ما تفرَّد به عن أسلافه من أطباء اليونان والمسلمين؛ فقالت: "وقد قال أبقراط ومن جاء بعده: بأن الطفل في جوف الأم يتحرَّك بنفسه تلقائيًّا، ويخرج بواسطة من هذه الحركة من الرحم، فجاء علي بن العباس ليكون أول من قال بحركة الرحم المولِّدة التي تدفع بالثمرةالجنين إلى الخروج بواسطة انقباض عضلاته.

وتقصد هونكه أن علي بن العباس قد أثبت أن الطفل في الولادة لا يخرج من تلقاء نفسه كما كان يُعتقد قبل ذلك، بل يخرج بفعل تقلصات عضلية داخل الرحم.

وإضافةً إلى ذلك كتب علي بن العباس عن الخرَّاج في رحم الأم، وفي حلقه، وعن سرطان الجوف الداخلي، وغيرها من التوصيفات المرضية التي توجد داخل أمعاء الإنسان، أو رحم الأمهات، وقد أشار في كتابه (الملكي) إلى ضرورة العمل في المستشفيات لمن أراد أن يكون طبيبًا ناجحًا

ولعَلَّ علي بن العباس المجوسي -كما يذكر الدكتور عامر النجار- من أوائل من أشاروا إلى وجود صلات بين الشرايين والأوردة؛ وفي ذلك إرهاصة متواضعة إلى وجود الأوعية الشعرية، كما يشتمل كتابه (الملكي) على ملاحظات إكلينيكية قد تكون متواضعة في زماننا هذا، لكنها كانت أكثر قيمة بالنسبة لعصره ووقته.

هذا، وقد تناقل مؤرخو العلوم الطبية بكل إعجاب النزعات العلمية والأخلاقية عند علي بن العباس؛
فمنها على سبيل المثال ما يلي:
1- يجب الاعتماد على تقويم صحة المريض؛ إذ (الوقاية خير من العلاج)
2-يلزم أن يُعَالَج العليل بالغذاء قبل اللجوء إلى الأدوية.
3- ينبغي التركيز على الأدوية المفردة وتجنب المركبة قدر الإمكان.
4- عدم تناول الأدوية الغريبة المجهولة.
7- يعتبر علي بن العباس أول من أشار إلى صعوبة شفاء المريض بالسل الرئوي بسبب حركة الرئة.
8- أوصى باستعمال القسطرة لإخراج البول من المثانة.
9- عالج بنجاح الغدد اللمفاوية (الدرني)
10- عالج أم الدم "الأنورسما" جراحيًّا.
11- وصف علاجًا لكل من الخلوع والكسور والتجبير.
12- وصف علاجًا لالتهاب اللوزتين.
13- بحث عن التقيد بتقاليد الصنعة وآدابها.
14- تواتر عنه أنه قال: "الطبيب والمريض والمرض ثلاثة، فمتى كان المريض يقبل من الطبيب ما يصف له ويتوقَّى ما ينهاه عنه، كان الطبيب والمريض محاربين للمرض، واثنان على واحد يغلبانه ويهزمانه، وإن كان المريض لا يقبل من الطبيب ما يصفه له ويتبع شهواته، كان المرض والمريض محاربين للطبيب، وواحد لا يقوى على محاربة اثنين".
15- ينصح الأطباء أن لا يكون هدفهم طلب المال بل الأجر والثواب، وألا يُعطوا دواءً قتالاً ولا يصفوه، ولا يدلُّوا عليه أو ينطقوا به، ولا دواء للنساء لإسقاط الأجنة، وأن يكون الطبيب رقيق الكلام، طاهرًا، بعيدًا عن كل نجس وفجور، وبعيدًا عن اللهو وشرب النبيذ، صافي النية في نظراته للنساء، وأن لا يُفشي سرًّا، وأن يكون رحيمًا وعفيفًا مع الفقراء.
16- يحثُّ الأطباء على تَذَكُّر الأعراض التي تعتري المريض.
17- كما يحثُّ الطبيب على ضرورة مداولة أمور المرضى مع زملائه وأساتذته حذّاق الأطباء

علي بن العباس.. الأثر والتأثير 

كغيره من علماء المسلمين في الحضارة الإسلامية، كان لعلي بن العباس صدًى كبير في الأوساط والمحافل العلمية والدولية، وكان له أثر عظيم على سير النهضة والحضارة الأوربية.

وإن كتابه (الملكي) ليُعدُّ من أوائل الكتب المترجمة من العربية إلى اللاتينية؛ فقد ترجمه قسطنطين الإفريقي (1020 - 1087م) عميد مدرسة الطب في سالرنو الإيطالية، والغريب أنه نسبه إلى نفسه. وقد انتشر هذا الكتاب في الغرب انتشارًا مذهلاً، وصار كتابًا منهجيًّا في جميع المدارس الطبية وقتئذٍ، كما تُرجم الكتاب مرَّة أخرى بواسطة باحث معروف هو إتيان الأنطاكي، وذلك في عام (521هـ/ 1127م)، الذي شكَّ في مقدرة قسطنطين الإفريقي على إنتاج مثل هذا العمل، فبحث عن مصدر هذا العمل، ومِن ثَم نسبه إلى صاحبه

وهكذا كان علي بن العباس شعلة وهَّاجة في سماء الحضارة الطبية، وكان له دوره الذي لا يُنْكَر في مسيرة الحضارة الإسلامية الإنسانية.



المصدر: قصة العلوم الطبية في الحضارة الاسلامية
د/راغب السرجاني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق